هايبر-كاميوكاندي مرصد النيوترينو الضخم في اليابان

·

وسط المناظر الطبيعية الهادئة والنائية لجبال الألب اليابانية، هناك مشروع علمي ضخم قيد الإنشاء في هدوء وصمت. يستعد هذا المشروع الهائل المعروف باسم “هايبر كاميوكاندي”، والذي يوجد في أعماق جبل نوغو، ليصبح أكبر مرصد للنيوترينو في العالم. وبتكلفة تقدّر بأكثر من 600 مليون دولار أمريكي، ويستغرق تطويره أكثر من عقدين من الزمن، يبشر هذا المشروع الرائد بإعادة تعريف فهمنا لأصغر جسيمات الكون.

هايبر- كاميوكاندي مرصد النيوترينو الضخم في اليابان

نظرة فاحصة في النيوترينوات

 

لتقدير أهمية هايبر كاميوكاندي، لا بد من فهم الجسيمات الشبحية التي يسعى إلى دراستها: النيوترينوات. هذه الجسيمات تحت الذرية دقيقة للغاية وتتفاعل بشكل ضئيل للغاية مع المادة، مما يعني أنها قادرة على الانتقال عبر الكواكب والنجوم وحتى أجسامنا دون أن تترك أثراً. إذ تعبر مليارات النيوترينوات من خلالنا كل ثانية، ومع ذلك فإن طبيعتها المراوغة تجعل من الصعب للغاية اكتشافها.

وبإمكان فهم النيوترينوات أن يفتح لنا المجال لرؤى عميقة حول القوى والجسيمات الأساسية التي يتكون منها الكون. ويتطلب الكشف عن هذه الجسيمات الشبحية بيئة خاصة معزولة عن الضوضاء الكونية وقادرة على رصد أدق التفاعلات.

الهايبر كاميوكاندي أعجوبة هندسية

بدأت أعمال الحفر في نفق الوصول إلى هايبر كاميوكاندي في جبل نوغو بشكل جدي في مايو 2021. وباستخدام طريقة الحفر والتفجير، قام الفريق بحفر نفق الوصول الذي يبلغ طوله كيلومترين في تسعة أشهر فقط. وهذا النفق يؤدي إلى موقع مركز المرصد الذي يقع على عمق 600 متر تحت الأرض في منجم كاميوكا في مدينة هيدا بمحافظة جيفو.

وفي وسط هذا الكهف الشاسع، تم بناء هيكل قبة مسلحة لتحمل الوزن الهائل للصخور التي تكسو المنجم. وسيبلغ قطر المرصد عند اكتماله 68 مترًا وعمقه 71 مترًا – وهو ما يكفي لتسع طائرة بوينج 747 واقفة على أطرافها. سيتم بعد ذلك تبطين الكهف بالخرسانة وطبقة مقاومة للماء لتجهيزه ليكون أكبر خزان للمياه فائقة النقاء في العالم، حيث سيحتوي على 260,000 طن من المياه.

كيف يعمل؟

يقع في قلب مشروع “هايبر كاميوكاندي” كاشف شيرينكوف المائي المكون من طبقتين. ينقسم الكاشف إلى كاشف داخلي وكاشف خارجي، يخدم كل منهما أغراضاً مختلفة ضمن هذه التجربة. الكاشف الداخلي هو منطقة الكشف الرئيسية، وهو مجهز بـ 40 ألف مستشعر فائق الحساسية للضوء، قطر كل منها 50 سم. وقد صُممت هذه المستشعرات للكشف عن ضوء الشيرينكوف الضعيف الناتج عن تفاعل النيوترينوات مع الإلكترونات في الماء فائق النقاء.

فعندما ينتقل نيوترينو عبر الماء، قد يصطدم أحياناً بإلكترون في الماء، مما يؤدي إلى وميض ضوئي ضعيف يُعرف باسم إشعاع شيرينكوف. تقيس هذه المستشعرات الضوئية فائقة الحساسية شدة الضوء ووقت الكشف بدقة عالية، مما يسمح للعلماء بالتمييز بين الجسيمات المختلفة بدقة تزيد عن 99%.

يحيط الكاشف الخارجي بالكاشف الداخلي وهو مجهز بـ 10000 جهاز استشعار ضوئي بقطر 8 سم. وتتمثل وظيفته الأساسية في رفض الميونات ذات الأشعة الكونية التي يمكن أن تتداخل مع القياسات. وتصل كفاءة رفض الميونات بالأشعة الكونية إلى أكثر من 99.9%، مما يحافظ على سلامة البيانات التي يتم جمعها.

مسيرة من الاكتشافات

هايبر كاميوكاندي ليس أول مرصد من هذا النوع في هذه المنطقة. فهو يأتي بعد تجربتي كاميوكاندي وسوبر كاميوكاندي اللتين سبق أن سلطتا ضوءاً كبيراً على النيوترونات. وقد كان مشروع كاميوكاندي الأول، الذي اكتمل في عام 1983، أساساً لهذا الفرع من الأبحاث، والذي أدى إلى إنشاء مشروع كاميوكاندي الفائق الأكبر Super-Kamiokande في عام 1996. وقد مهّد نجاح هذه المشاريع الطريق أمام مشروع كاميوكاندي الخارق Hyper-Kamiokande الذي يعد باكتشافات أكبر.

أجهزة الكشف الضوئي فائقة الحساسية

يستخدم جهاز Hyper-Kamiokande أجهزة كشف ضوئي متطورة ذات كفاءة مضاعفة عن تلك الموجودة في جهاز Super-Kamiokande. هذه المستشعرات الضوئية الجديدة قادرة على قياس شدة الضوء ووقت الكشف بدقة أعلى بكثير. النوع الأول من المستشعرات هو عبارة عن أنبوب مضاعف ضوئي بفتحة كبيرة وحساسية عالية (PMT) يتميز بأداء أفضل في اكتشاف الضوء وقياس شدته ودقة التوقيت. وقد تم تصميم هذه المستشعرات لتتحمل ضغط الماء العالي في الخزان الذي يبلغ عمقه 71 متراً كما أنها تحتوي على محتوى منخفض من المواد المشعة في الخلفية.

وقد بدأ الإنتاج الضخم لهذه الأنابيب الجديدة المضاعفة للضوء في عام 2020، مع جدول زمني محدد بست سنوات للتصنيع إلى غاية بدء التجربة في عام 2027. والنوع الثاني من أجهزة الاستشعار هو مستشعر “العين المركبة”، ويتألف من عدة أنابيب مضاعفة ضوئية قطرها 8 سم مجمعة معاً. ويزيد هذا التصميم من دقة الكشف ودقة التحليل، مما يوفر تصويراً أكثر تفصيلاً لتفاعلات النيوترونات.

الأهمية الكبيرة لأبحاث النيوترينوات

في حين أن دراسة النيوترينوات قد تبدو مقصورة على مجال معين، فإن النتائج المترتبة عليها واسعة النطاق. فقد أدى التقدم في فيزياء الجسيمات إلى التصوير الطبي وعلاجات السرطان وغير ذلك . على سبيل المثال، يعود الفضل في تطوير التصوير الطبي إلى فيزياء الجسيمات بشكل كبير، مما أعطانا فحوصات التصوير المقطعي المغناطيسي وأجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي التي أنقذت حياة عدد لا يحصى من الأرواح.

كما ساعدنا فهم سلوك الجسيمات دون الذرية على فهم ديناميكيات السوائل، مما أدى إلى تحسين بناء خطوط الأنابيب لمسافات طويلة ودقة التنبؤ بالطقس. وكان اختراع شبكة الويب العالمية من قبل تيم بيرنرز-لي نتيجة للحاجة إلى مشاركة المعلومات بسهولة بين علماء فيزياء الجسيمات.

في أعماق قلب جبال اليابان الهادئة، يقف هايبر كاميوكاندي في أعماق جبال اليابان الهادئة كمنارة للتقدم العلمي البشري، حيث يستعد لإلقاء الضوء على المجهول وتوسيع نطاق فهمنا للكون.